علاج مشكلة الفقر بين الإعجاز القرآني والعجز البشري:
جاء القرآن الكريم إلى الحياة بمنهج كامل، يهتم بالجانب المادي في حياة البشر بقدر ما يهتم بالجانب الروحي، ذلك لأن كلا الجانبين يتأثر بالآخر ويؤثر فيه.
فإذا كان حقاً ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان فهو أيضاً بدون الخبز لا يستطيع أن يحيا لذلك وضع القرآن الكريم مشكلة الفقر في مقدمة المشكلات الاجتماعية التي عالجها واهتم بها واعتبر مجرد ترك أحد أفراد المجتمع جائعاً هو تكذيب بالدين نفسه حيث قال سبحانه اريت الذي َ يكذِّب بِالدينِ. ف ذلِك الَّذي يدع اْليتيم. ولا يحض عَلى طَعامِ اْلمسكين
من هنا حرص التشريع القرآني على وضع الحلول المناسبة لمشكلة الفقر وعلاجها0
فالإسلام يريد للناس أن يحيوا حياة طيبة ينعمون فيها بالعيش الرغد، ويغتنمون بركات السماوات والأرض، ويأكلون من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيشعرون بنعمة الله تملأ حياتهم وبذلك يقبلون على عبادة الله بخشوع وإحسان ولا يشغلهم الهم في طلب الرغيف عن طلب مرضاة لله، و لا يثنيهم الانشغال بمعركة الخبز عن معرفة الله وحسن الصلة به.
وبهذا يستطيع الفقير أن يكون عضواً فاعلاً في الحياة يقوم بواجبه في طاعة الله، وبهذا يشعر أنه عضو حي في جسم المجتمع وأنه ليس شيئاً ضائعاً وكماً مهملاً( )0
ولم يعترف التشريع القرآني بالمسكنات في التعامل مع مشكلة الفقر، ولم يعترف أيضاً بأنصاف الحلول بل جعل لهذه المشكلة حلاً جذرياً شافياً وعلاجاً متكاملاً للقضاء عليها وتخليص المجتمع من شرورها وأخطارها وهذا الحلُّ والعلاج القرآني يتمثل في ركيزتين:
الأولى: توجيه الأنظار إلى أسباب الوقاية من الفقر ووسائلها حيث نبه المؤمنين إلى أسباب الرزق وأبواب الغنى التي تنفع المرء قبل الوقوع في الفقر حيث تعتبر وسائل للوقاية منه، ومن هذه الوسائل:
• الإيمان بأن الله هو الخالق الرازق.
• تقوى الله عز وجل.
• شكر الله على نعمائه.
• استغفار الله تعالى.
• إعمار بيوت الله.
• حسن التوكل على الله.
• الإنفاق في سبيل الله.
• عدم الإسراف والتبذير.
الثانية: وضع القرآن الكريم حلولاً مثمرة ووسائل علاجية متكاملة بحيث إذا طبقت تلك الوسائل بحذافيرها خلقت مجتمعاً خالياً من الفقر وشروره، وتلك الحلول منها ما يقع تطبيقه على الفقير نفسه فهو مطالب بالمشاركة في معالجة فقرة عن طريق العمل والكسب مع الالتزام بكل وسائل الوقاية من الفقر لأنها مفاتيح للرزق وأبواب للكسب نبه إليها رب العزة والجلال في كتابه وحث المؤمنين على التزامها واتباعها، كما أن الزواج والإنجاب والوصايا والمواريث من الوسائل العلاجية التي تعين الفقراء على حل مشاكلهم.
ومن الوسائل العلاجية ما تقع مسئوليتها على المجتمع المسلم فهو مطالب بالمشاركة في القضاء على هذه المشكلة عن طريق التكافل الاجتماعي وإيصال حقوق الفقراء إلى أصحابها من غير من ولا أذى، حيث فرض الله سبحانه وتعالى على المجتمع حقوقاً مالية للفقراء منها ما هو واجب كالزكاة والكفارات والفدية والنذور وزكاة الفطر والأضاحي على الغني دون الفقير، على القادر في غير مؤنه ومشقة دون غيره، وكذلك الهدي على حجاج بيت الله الحرام.
كما فرض التشريع القرآني لحل هذه المشكلة أيضاً حقوقاً تطوعية في الأموال تؤدى للفقراء كالصدقات والهبات وكفالة الأغنياء للأقارب الفقراء وكفالة الأيتام.
وتقع مسئولية التوزيع العادل على الدولة وولي الأمر بحيث يأخذ كل فقير حسب حاجته، وبحيث لا يكرم فقير على حساب بقية الفقراء، ولا يظلم فقير وينسى دون سائر الفقراء.
وتجدر الإشارة هنا أن الإسلام حين عالج الفقر حرص أيضاً على معالجة سببه بهدف القضاء عليه وإلقائه من المجتمع الإسلامي من غير رجعة.
فالفقير العاجز عن كسب ما يقيه وما يسد رمقه إما لضعف جسماني كأن يكون شيخاً مسناً ليس قادراً على الكسب فله حق في الزكاة والصدقات والأضاحي وكفالة الأقارب له وما إلى ذلك، وإما أن يكون الضعف بسبب موت المعيل وصغر سن الفقير فله كفالة اليتيم التي تعوضه الحنان والعطف وتوفر له لقمة عيش كريمة في ظل أسرة مؤمنه رحيمة.
وقد يكون العجز عن الكسب نتيجة لانسداد أبواب العمل الحلال في وجه القادرين عليه رغم طلبهم له وسعيهم الحثيث إلية فأولئك في حكم العاجزين لهم حقوق على الدولة وعلى أبناء المجتمع بتوفير لقمة عيش كريمة أو عمل مشروع لهم.
وقد يكون الفقر نتيجة لتكاسل الفقير وتقاعسه عن العمل مع القدرة عليه فواجب ولي الأمر مع أولئك أن يحثهم على العمل ويأمرهم به؛ كي لا يكون أولئك نقطة سوداء في جبين المجتمع وعالة على أبنائه.
ومن الفقراء نوع مستور الحال ليس عاطلاً عن العمل ولا عاجزاً عنه ولكنه يعمل ويكسب كسباً يدر عليه رزقاً لا يكفيه ولا يسد حاجته ولا يحقق له تمام كفايته، فذلك هو) المسكين (الجدير بالمعونة؛ لأن ذلك الصنف من الفقراء يغفل الناس عنه وهم كُثر في مجتمعنا وهم الذين تمنعهم عزة النفس عن طلب المعونة أو التظاهر بالحاجة فالواجب تجاه ذلك الصنف من الفقراء التنبه لهم ومساعدتهم وستر حالهم من قبل الدولة وأبناء مجتمعهم حفاظاً على كرامتهم وسداً لاحتياجاتهم ( )0
وهذه الحلول القرآنية لمشكلة الفقر لم تتنزل لمرحلة معينة من الزمن بحيث لا تصلح إلا لها، ولم تشرع لمجموعة خاصة من البشر بحيث لا يصح تطبيقها ولا تؤتي ثمارها إلا لهم بحيث تصلح لإصلاح حالهم وعلاج مشكلتهم وتتوقف صلاحيتها بموتهم ورحيلهم.
فالقرآن الكريم باق بقاء الدنيا وصالح لكل زمان ومكان، ولكل مجتمع وأمة وخالد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وحلوله لقضايا البشر ومن ضمنها مشكلة الفقر صالحة لكل زمان ومكان ولكل مجتمع وأمة فهذه الحلول القرآنية لا ترتبط بمرحلة تاريخية معينة ولا مجتمع معين.
كما لا ترتبط بجيل معين من البشر، فحين طبقت هذه الحلول في المجتمع الأول سجلت نجاحاً شهد له العدو قبل الصديق، ومشكلة الفقر في البلاد الإسلامية اليوم ليست إلا نتيجة لعدم تطبيق شرع الله والبعد عن النظام الاقتصادي القرآني الذي وضعه سبحانه وتعالى لإصلاح خلقه وإدارة شئونهم الاقتصادية، ومعالجة مشاكلهم، بحيث لو طبق المسلمون اليوم تلك الحلول القرآنية لنجحوا في القضاء على مشاكلهم الاقتصادية وخاصة مشكلة الفقر0
فهذه الحلول الإلهية صالحة لكل زمان ومكان فقد نجح تطبيقها في المجتمع الأول وآتت ثمارها وسوف تحقق أهدافها ونتائجها الطيبة الإيجابية لو طبقت في هذا الزمان عصر الفضاء والذرة بشرط حسن التطبيق، ودقته مع إخلاص النية فيها لله رب العالمين، فما صلح به أول هذه الأمة سيصلح به آخرها.
وبالإضافة إلى الحلول القرآنية الشاملة لمشكلة الفقر التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، فإن التشريع القرآني أحاط هذه الحلول القرآنية بسياج منيع وحصن حصين من الضوابط الاقتصادية ( ) بهدف حفظ التوازن الاقتصادي وعدم الوقوع في الفقر مرة أخرى بعد القضاء عليه، وتلك الأساليب والضوابط الاقتصادية يجب تطبيقها حماية للاقتصاد الإسلامي منعاً للتفاوت الطبقي حفظاً للتوازن سواء أكان بين الأفراد على مستوى المجتمع، أم بين الأقطار على مستوى الأمة،أو بين الدول على مستوى العالم، في حال انتشار الإسلام في ربوعه وتلك الضوابط هي :
عدم السماح بالثروة والغنى إلا بعد ضمان حد الكفاية لكل فرد من أفراد الأمة فضلاً عن عدم لسماح كلية بكنز المال وحبسه عن التداول أو إنفاقه في سرف أو ترف 0
عدم السماح باستئثار أقلية بخيرات المجتمع، ذلك لأن المجتمع الإسلامي يقوم على العدل المحبة والتعاون، فالتفاوت الفاحش في توزيع الثروة واستئثار أقلية بخيرات المجتمع يتنافى العدل بل يؤدي إلى الجور وتحكم الأقلية واستبدادها، كما يولد الكراهية والحسد في نفوس لأكثرية الكادحة ويخلق الطبقية والصراع في المجتمع مما يؤدي إلى عدم الانسجام بين أفراد المجتمع كما قال تعالى :"كى لا يكُون دوَلةً بين الأَغنياء "( )0
لذلك جاء النص القرآني صريحاً بمعنى أنه لا يقبل في الإسلام أن يكون المال متداولاً بين فئة قليلة من الناس وحرمان الأغنياء دون الفقراء، لأن ذلك يجعل المال في أيدي معينة مما يؤدي إلى الاختلال في التوازن لاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق